الأربعاء، 6 نوفمبر 2013



 1-أحيانا يأتي جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صفة رجل من البشر وكان كثيراً مايأتي في صورة دحية الكلبي.

2-وأحياناً يأتي ولا يراه الحاضرون، وقد يسمعون له دوياً وصلصلة كصلصلة الجرس.

ودل على هاتين الحالتين من الوحي مارواه البخاري في صحيحه(30) بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيقصم عَنّي وقد وعيت منه ماقال: وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي مايقول … الخ هذا والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل عليه السلام ولم يأت منه شيء عن تكليم أو إلهام أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جلياً(31).


نزول القرآن مفرقا – منجما -

قال تعالى "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ " الشعراء : 192-195 وقال تعالى "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " النحل : 102 ويقول تعالى "حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ " الجاثية 1-3. وقال تعالى "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ " البقرة : 23 وقال تعالى "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " البقرة : 97 فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به نزوله منجما، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم فإن علماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرقا، والإنزال أعم(32).

فقد نزل القرآن الكريم على مدى ثلاث وعشرين سنة ثلاث عشرة بمكة على القول الراجح، وعشر بالمدينة المنورة.

من الأدلة على نزول القرآن مفرقاً قوله تعالى "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " الإسراء : 106 والمعنى: جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت، ونزلناه تنزيلاً بحسب الوقائع والأحداث(33).

قال الزرقاني في مناهل العرفان(34) :"وفي تعدد النزول وأماكنه، مرة في اللوح وأخرى في بيت العزة، وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن الكريم، وزيادة للإيمان لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة، وصحت له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للريب عنه، وأدعى إلى تسليم ثبوته، وأدنى إلى وفرة الايقان به مّما لو سجّل في سجل واحد، أو كان له وجود واحد ".

نزول الكتب السماوية الأخرى

الصحيح المشهور بين العلماء أن الكتب السماوية غير القرآن نزلت جملة واحدة ولم تنزل متفرقة، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان، وهي قوله تعالى "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا " الفرقان : 32.

فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية غير القرآنية نزلت جملة واحدة كما على ذلك جمهور العلماء.

ووجه الدلالة أن الله لم يكذبهم في دعواهم أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة، فلو كان نزول الكتب السماوية مفرقا لما كان هناك مايدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن مفرقاً منجما، لأن معنى قوله "لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً" هلاّ أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب، وماله أنزل على التنجيم ولم ينزل مفرقا، بل بيَّن لهم الحكمة من نزول القرآن منجما، ولو كانت الكتب السماوية نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول لهم إن التنجيم سنة الله في الكتب التي أنزلت على الرسل كما أجاب بمثل ذلك في قولهم "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ " الفرقان : 7. قال في الرد عليهم "وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ " الفرقان : 20. فبيّن لهم أن ذلك سنن المرسلين والأنبياء(35).

الحكم التي تستفاد من نزول القرآن مفرقاً منجما

هذا ولاشك أن في نزول القرآن منجما -مفرقا- على حسب الوقائع والأحداث حِكَما وأسراراً عظيمة، كيف وذلك التنجيم ممّن أنزل القرآن وهو سبحانه أعلم بما يصلح عبادة "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " الملك : 14. يعلم سبحانه المنهج الصالح لتربية الأمّة المنهج الذي يجعلها أمّةً منقادة لأوامر الله، منتهية عن مساخطه.

ونلخص هنا بعض الحكم التي ذكرها العلماء والباحثون في هذا المجال:-

1- الحكمة الأولى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطمين خاطره وقلبه وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذه الحكمة في قوله " كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا" الفرقان : 32. ويندرج تحت هذه الحكمة كثير.

لقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الناس فوجد منهم نفوراً شديداً وقلوباً قاسية، قابله قومه بقلوب قاسية فطرت على الأذى، وقابلوه بصنوف الأذى والشتم مع رغبته الصادقة وسعيه المشكور في إيصال الخير الذي جاء به إليهم حتى قال الله تعالى في حقه "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا " الكهف :6 فكان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة ليثبت فؤاده على الحق ويقوي عزمه على المضي في الخير.

وقد بين الله أن سنته في أنبيائه السابقين أنهم كذبوا وأوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وبيَّن كذلك أن قومه ما كذبوه إلا استكبارا وعلوا، وردّاً للحَق، فيجد الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك تسلية له قال تعالى "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ " الأنعام : 33. "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا " الأنعام : 34. "فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ" آل عمران : 184. ، ونجد القرآن يأمره بالصبر في قوله تعالى "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " الأحقاف: 35.

فكلما اشتد ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تكذيب قومه وداخله الحزن لأذاهم، نزل القرآن دعما وتسلية له عما يعانيه من قومه فهدد المشركين المكذبين بأنه يعلم أحوالهم وسيجازيهم بما يستحقون قال تعالى "فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " سورة يس : 76 ، وقال: "وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" المائدة : 67. وقال: "وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا " الفتح : 3. ، قال "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي " المجادلة : 21

وأحياناً تنزل الآيات بوعيد المكذبين للأنبياء كما قال تعالى "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ " الأعراف : 97-98

وآونة تنزل الآية بالبراهين والحجج الدامغة في الرد عليهم فيما يتمسكون به من شبه واهية، كالآيات الواردة في إثبات توحيده وصفاته، واستحقاقه للعبادة وإثبات البعث والحشر، وكان من ثمرة هذا التثبت أن أبدى النبي صلى الله عليه وسلم غاية الثبات والشجاعة والوثوق بالله في أحرج المواقف وأشدها هولاً. انظر إلى قوله للصديق في الغار "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا " التوبة: 40.

وهكذا كانت آيات القرآن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعاً تسلية له بعد تسلية، وعزاء حتى لايأخذ منه الحزن مَأخذه، ولايجد اليأس إلى نفسه سبيلا.

2 – من الحكم البارزة تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذلك غاية الحرص، حتى إنه كان يعاجل جبريل ولاينتظره حتى يفرغ حتى أنزل الله "وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا " طه الآية 114. وقال تعالى "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " القيامة : 16-19.

هذا وإن القرآن الكريم نزل على أمة أمية لاتعرف الكتابة ولا القراءة وكانت ذاكرتها وحفظها هما السجلُّ لها، لادراية لها بالكتابة حتى تكتب وتدون ثم تحفظ قال تعالى "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " الجمعة : 2. وقال تعالى "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ " الأعراف : 157.

فلو نزل القرآن جملة واحدة على هذه الأمة الأمية التي لاتعرف الكتابة ولا التدوين لم يصح لها أن تحفظ القرآن كله بيسر، وكان نزوله مفرقاً أكبر عون لها على حفظه في صدورها وفهمها لآياته.

كلما نزلت الآية فهمها الصحابة، وتدبروا معانيها، وقد كان هذا منهجاً لحفظ القرآن في عهد التابعين.

عن أبي نضرة قال: "كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي، ونجد أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات" أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعن خالد بن دينار قال: قال لنا أبو العالية تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمساً أخرجه البيهقي"(36).

3- من الحكم كذلك التدرج في تربية الأمة دينيا وخلقيا واجتماعيا وعقيدة وعلماً وعملا وهذه الحكمة أشار إليها القرآن في قوله "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " الإسراء : 106

لقد تدرج القرآن الكريم في انتزاع العقائد الفاسدة والعادات الضارة والمنكرات الماحقة، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعبدون الأصنام ويشركون بالله، ويسفكون الدماء، ويئدون البنات ويشربون الخمر ويقتلون النفس لأتفه الأسباب، ويفعلون القبائح ومعلوم أن النفس يشق عليها ترك ما ألفته وتعودته مرة واحدة كما يصعب رجوعها وإقلاعها عما اعتقدته بمجرد النهي عنه للعقائد والعادات سلطان على النفوس، والناس أسراء ماألفوا ونشأوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة، وطالب بالتخلي عما هم منغمسون فيه من الكفر والجهل والمنكرات مرة واحدة لما استجاب إليه أحد.

لذلك اقتضت حكمة الله أن يتدرج القرآن في انتزاع العقائد الفاسدة فينهى أولا عن عبادة غير الله فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النهي عن منكر آخر وهكذا تدرج القرآن معهم في انتزاع المنكر الواحد كما حدث في تحريم الخمر فقد نزل فيه أول مانزل "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " فشربها قوم وتركها آخرون ثم إن بعض المسلمين صنع طعاماً ودعا أصحابه فأكلوا وشربوا ثم قام أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها ونقص وزاد، فأنزل الله عز وجل "ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى" النساء : 43.

فكانوا بعد ذلك يتركونها عند الصلوات وفي الأوقات القريبة منها حتى لايقعوا في مثل هذا الخلط، وبذلك صار من السهل تحريمها تحريماً باتاً، فقد صنع بعض المسلمين طعاماً فأكلوا وشربوا حتى لعبت الخمر برؤوسهم فتناشدوا الأشعار فتشاجروا حتى شج أحدهم رأس الآخر فقال الفاروق عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافياً فحرمها الله بعد ذلك تحريماً باتا حيث أنزل فيها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ " المائدة : 90 إلى قوله "فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ " المائدة : 91 فقال عمر: انتهينا فمن ثم اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرقا(37).

من الحكم كذلك: التدرج في تثبيت العقائد الصحيحة والأحكام التعبدية والعملية والآداب والأخلاق الفاضلة.

فقد أمر القرآن أولاً بالإيمان بالله وصفاته، وعبادته وحده، حتى إذا ما آمنوا بالله دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم بالإيمان بالرسل والملائكة حتى إذا ما اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وأشربوا حبه، سهل عليهم بعد ذلك تقبل الأوامر، والتشريعات التفصيلية والأحكام العلمية والفضائل والآداب العالية، فأمروا بالصلاة والصدق والعفاف ثم بالزكاة ثم بالصوم، ثم بالحج، كما بينت أحكام النكاح، والطلاق والرجعة والمعاملات من بيع وشراء وتجارة إلى غير ذلك من المعاملات.

وقد أشارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى هذه الحكمة كما في صحيح البخاري(38) قالت عائشة: إنما نزل من القرآن أول مانزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لاتشربوا الخمر لقالوا لاندع الخمر أبدا، ولو نزل لاتزنوا لقالوا لاندع الزنى أبدا.

وقد دل القرآن بهذه السياسة الحكيمة الرشيدة في إصلاح الشعوب وتهذيب أخلاقها على أنه معجز وأنه كلام الله، فما كان لبشر مهما كان ذكاؤه أن يتوصل إلى هذه الطرق الحكيمة، في الوقت الذي بعث فيه نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن هذا من صنع العليم الخبير.

4 – من الحكم كذلك، تثبيت قلوب المؤمنين وتعويدهم على الصبر والتحمل بذكر قصص الأنبياء، ومالاقوه وأن العاقبة للمتقين كقوله تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ " النور الآية 55 وكقوله "الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " العنكبوت الآية 1-3.

5 - التحدي والإعجاز: فالمشركون تمادوا في غيهم وبالغوا في عتوهم، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحدّ يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته، ويسوقون له من ذلك كل عجيـب كعلـم الســاعة "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ " الأعراف: 187. وكقوله "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ " سورة الحج : 47. وحيث عجبوا من نزول القرآن منجماً بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم "لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً " الفرقان:32.

ويشير لهذه الحكمة ماجاء في بعض الروايات من حديث ابن عباس عن نزول القرآن فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس(39).

قال في المدخل(40) فنزوله منجماً مفرقاً من أقوى الأدلة على أنه معجز وأنه كلام الله، إذ لو أنزله الله جملة واحدة لكانت لهم حجة أن يقولوا شيء نزل علينا مرة واحدة، فلو نزل علينا مفرقا لعارضناه فقطع الله عليهم تلك الحجة فكأنه يقول لهم إن كنتم تقولون إنه ليس كلام الله، فأتوا بسورة مثله أو بعشر سور، أو آية، فسجل عليهم العجز الأبدي.
ومع نزوله مفرقاً على مدى بضع وعشرين سنة كان غاية في روعة الأسلوب ورصانة الألفاظ، لاتفاوت فيه، فكان بذلك معجزا.
من الحكم كذلك: الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقا على مدى عشرين سنة حسب الوقائع والأحداث، ومع طول هذه الفترة، كانت تنزل منه الآية والآيات الكثيرة، والآيات القليلة على اختلاف الموضوعات ومع ذلك كان أسلوبه أسلوباً واحداً لم يتغير في فصاحته وجزالته وقوته، فأسلوبه واحد، مترابط بعضه ببعض، لا انفكاك فيه متناسق الآيات والسور كأنه عقد واحد "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فلو كان من كلام البشر وقد قيل في مناسبات كثيرة، وموضوعات مختلفة متباينة، لوقع فيه التفكك والانفصام قال تعالى "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا اً" النساء : 82 هذا والحكم التي أخذت من نزول القرآن مفرقاً منجما كثيرة لاتكاد تحصر، وقد نثرها علماء هذا الفن في كتبهم وقد لخصنا منها ماذكرنا تلخيصاً، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين وأن يجنبنا الزيغ.

الكلام في نزول القرآن على سبعة أحرف
بما أن هذا الموضوع من أخصّ موضوعات نزول القرآن لابد من التطرق إليه على انفراد بإيجاز، مع العلم أن الموضوع تكلم فيه العلماء قديماً وحديثاً وأكثروا فيه الأقوال، ولاسيما المعنى المراد بكونه نزل على سبعة أحرف وأنا أتناوله حسب المحاور التالية:
المحور الأول: النصوص الدالة على نزوله على سبعة أحرف:
اعلم أيها القارئ الكريم أن حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف جاء عن كثير من الصحابة حتى ذكر بعض العلماء عنه التواتر، وممن قال بذلك أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد ذكر السيوطي في الاتقان أنه جاء عن واحد وعشرين من الصحابة(41).
منهم على سبيل المثال: أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وابن عباس وابن مسعود وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وغير هؤلاء وأخرج الحافظ أبو يعلى في مسنده أن عثمان قال على المنبر "أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها(42) كاف شاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم، قال في المدخل:" وهذا يدل على أن الحديث كان معروفاً مشهوراً غاية الشهرة في زمن الصحابة، ولكن هل نقله عنهم في كل طبقة جماعة كثيرون ممن يثبت بهم التواتر قال هذا مايحتاج إلى إثبات وإلا فغاية أمره أنه مشهور من الأحاديث الدالة على نزول القرآن على سبعة أحرف ".
1 - ما جاء في الصحيحين بسندهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف "(43).
2 - وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما بسنديهما عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن عبدالقارى أخبراه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره(44) في الصلاة، فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله اقرأ ياهشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كذلك أنزلت، ثم قال اقرأ ياعمر فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : كذلك أنزلت إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ماتيسر منه"(45).
3 – روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة(46) بني غفار قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لاتطيق ذلك ثم جاءه الثالثة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأي حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.
4 – روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه (47) فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماقد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فقال لي ياأبيّ أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت عليه، أن هون على أمتي فرد إلى الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
5 - وروى أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلاً قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تحاروا فيه" إسناده حسن (48).
هذا: والأحاديث في إثبات نزول القرآن على سبعة أحرف كثيرة مستفيضة، ذكر معظمها ابن جرير الطبري في مقدمة تفسيره(49).
المحور الثاني: مايستخلص من الروايات الأمور التالية:
1 - لو نزل القرآن على حرف واحد لشق ذلك على الأمة العربية فقد كانت متعددة اللغات واللهجات، وما يتسهل النطق به على البعض لايسهل على البعض الآخر، وكانت تغلب عليها الأمية فلا عجب أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاستزادة من الحروف حيث بلغت سبعة أحرف.
فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن أنزل القرآن على سبعة أحرف رفعاً للحرج، وتيسيراً لقراءته وحفظه.
2 - إن هذه التوسعة إنما كانت في الألفاظ، ولم تكن في المعاني والأحكام وأنها كانت في المعنى الواحد يقرأ بألفاظ مختلفة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلاً من المختلفين على قراءته.
3 - إن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبعة إنما كانت في حدود مانزل به جبريل وماسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بدليل أن كلاً من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله: هكذا أنزلت كما في حديث عمر وهشام.
ولايتوهم أي إنسان أن التوسعة كانت باتباع الهوى، فذلك مالايليق أن يفهمه مسلم فضلاً عن عاقل إذ الروايات الواردة ترده وتبطله ولو كان لكل أحدٍ أن يقرأ بما يتسهل له من غير تلق وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبدل ذلك من تلقاء نفسه لذهب إعجاز القرآن ولكان عرضة أن يبدله كل من أراد، ولما تحقق وعد الله سبحانه بحفظه في قوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " الحجر : 9 وكيف يتفق هذا الوهم الباطل مع قول الله عز وجل " قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" يونس : 15-16

4 - أن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف منها من غير إلزام بواحد منها فمن قرأ بأي حرف منها فقد أصاب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر فاقرأوا ماتيسر منه.

5 - أن التوسعة على الأمة لم تكن في مبدأ الدعوة فحسب بل كانت بعد الهجرة وبعد أن دخل في الإسلام كثير من القبائل غير قريش فكانت الحاجة ماسة إلى هذا التسهيل وتلك التوسعة: يشهد لهذا حديث مسلم أن النبي كان عند أضاة بني غفار وقد تقدم(50).
6 - هذه التوسعة مظهر من مظاهر الرحمة والنعمة ولاينبغي أن تكون مصدر اختلاف أو أن تكون مثيرة للشك، أو مضعفة لليقين، فقد حذرهم الرسول صلوات الله عليه من الاختلاف، كما في حديث ابن مسعود، ومن الشك في القرآن كما في حديث عمرو بن العاص "فلا تماروا فيه" وفي رواية لابن جرير الطبري من حديث أبي جهم "فلا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر"(51).
7 - حرص الصحابة رضوان الله عليهم البالغ على القرآن وغاية تحوطهم في المحافظة عليه، ونفي الريب والتغيير والتبديل عنه، ويدل على هذا ماكان من الفاروق عمر رضي الله عنه مع هشام بن حكيم حتى هم أن يأخذ بتلابيبه وهو في الصلاة(52).
المحور الثالث: المراد بمعنى الاحرف السبعة:
اعلم أنه اختلف في ذلك اختلافاً كثيراً حتى أوصل السيوطي الأقوال في معناها إلى نحو أربعين قولاً(53).
وأنا أذكر بعضها فقط، ملخصاً ذلك من كتب الفن:-
1 - القول الأول: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منزلاً بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لايكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر.
2 - القول الثاني: أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه في جملته لايخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم.
3- القول الثالث: أن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة من الأمر والنهي والوعد والوعيد، والجدل والقصص، والمثل، أو من الأمر والنهي والحلال والحرام والمحكم والمتشابه والأمثال عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال"(54).
4 - القول الرابع: أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف وهي:
( 1 ) اختلاف الأسماء بالأفراد والتذكير وفروعهما، كقوله تعالى "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" قرئ لأماناتهم بالجمع، وقرئ لأمانتهم بالإفراد، ورسمها في المصحف "لأمنتهم " يحتمل القراءتين لخلوها من الألف الساكنة، ومآل الوجهين في المعنى واحد فيراد بالجمع الاستغراق الدال على الجنسية، ويراد بالإفراد الجنس الدال على معنى الكثرة، أي جنس الأمانة(55).
( 2 ) الاختلاف في وجوه الإعراب كقوله تعالى "مَا هَـذَا بَشَرًا " يوسف : 31. قرأ الجمهور بالنصب على أن "ما" عاملة عمل ليس وهي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن، وقرأ ابن مسعود "مَا هَـذَا بَشَر" بالرفع على لغة بني تميم، فإنهم لايعملون ماعمل ليس.
( 3 ) الاختلاف في التصريف: كقوله تعالى "فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا " سبأ : 19 قرئ بنصب "رَبَّنَا" على أنه منادى مضاف "وبَاعِدْ" بصيغة الأمر وقرئ ربنا بالرفع، "وبَاعِدْ" بفتح العين على أنه فعل ماض.
( 4 ) الاختلاف بالتقديم والتأخير، إما في الحرف كقوله "أَفَلَمْ يَيْئسِ " الرعد: 31. وقرئ "أَفَلَمْ يَيْأَسِ " وإما في الكلمة كقوله تعالى "فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " التوبة : 111. بالبناء للفاعل في الأول وللمفعول في الثاني.
( 5 ) الاختلاف بالإبدال سواء كان إبدال حرف بحرف كقوله تعالى "وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا" البقرة : 259. قرئ بالزاي المعجمة مع ضم النون، وقرئ بالراء المهملة مع فتح النون، أو إبدال لفظ بلفظ كقوله تعالى "كالعهن المنفوش" قرأ ابن مسعود وغيره "كالصوف المنفوش".
( 6 ) الاختلاف بالزيادة والنقص فالزيادة كقوله تعالى "وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار" قرئ من تحتها الأنهار بزيادة من، وهما قراءتان متواترتان والنقصان كقوله تعالى "وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا " البقرة : 116. بدون واو وقراءة الجمهور وقالوا اتخذ الله ولداً بالواو.
( 7 ) اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة، والإظهار والإدغام والهمز والتسهيل، والإتمام ونحو ذلك.
كالإمالة وعدمها في مثل قوله "وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى " طه : 9. قرئ بإمالة "أتى" موسى" وترقيق الراء في قوله "خَبِيرًَا بَصِيرًا " وتفخيم اللام في الطلاق، وتسهيل الهمزة في قوله "قد أفلح المؤمنون" وإشمام الغين ضمه مع الكسر في قوله "وَغِيضَ الْمَاء " هود : 44
5 - القول الخامس: ذهب بعضهم إلى أن العدد سبعة لامفهوم له، وإنما هو رمز إلى ماألفه العرب من معنى الكمال في هذا العدد، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئات، ولايراد العدد المعين(56).
6 – القول السادس: أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع وهناك أقوال كثيرة وقد رجح كثير من العلماء القول الأول في أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد نحو أقبل، وتعال، وهلم، وعجل، وأسرع، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، ممن رجح هذا القول كبير المفسرين ابن جرير الطبري(57) وإليه ذهب سفيان بن عيينة، وابن وهب وخلائق، ونسبه ابن عبدالبر لأكثر العلماء(58).
واعلم أن أسباب النزول من مقتضيات نزول القرآن الكريم ولذلك لابد من الكلام عليها كلاماً غير مطول لأنها تحتاج إلى بحث مستقل فنتناولها من النواحي التالية:
تعريف سبب النزول، العبارات التي تعد نصا في سبب النزول، اعتناء الصحابة بمعرفة أسباب النزول.
فوائد أسباب النزول، هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ كذلك يلزم على معرفة نزول القرآن، الكلام على جمعه والاعتناء بحفظه والكلام على تواتره وشروط القراءة الصحيحة.
تعريف المكي والمدني والكلام عليه كلاما موجزاً من مظاهر العناية بالقرآن الكريم ونزوله العناية بكتابته ورسمه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

حقوق الموقع متاحة للإستفادة والإفادة نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلآص والمتابعة